الموصلات العامة ليست فقط وسيلة لتقلك إلى منزلك وأنت عائد من عملك، يمكنك أيضا أن تكون جزءاً من مشهد يتكرر بشكل يومى، يقودك الحظ لتجلس بجوار شاب أو فتاة أو رجل أو سيدة، وفجأة يرن تليفون أحدهم "ألو يا حبيبى"، وهذه الكلمة مدخل خاص يأخذك لتفاصيل أنت بعيد عنها، وبقدرة قادر تجدك مهتماً بباقى التفاصيل، وتنتهى المكالمة وتلاحظ الابتسامات الساخرة أو نظرات الامتعاض من صاحب التليفون الذى لم يحترم خصوصيته، وشارك الجميع فيها، وبابتسامة خجل يرد "معلش أصل إحنا كنا متخنقين".
لافتة "ممنوع الإزعاج" أين تراها ؟ قد تراها فى السينمات أو فى الفنادق وغيرها، هل تحلم أن تراها فى المواصلات العامة لكى تستمتع بمواصلات بدون إزعاج أو مشاكل أو بلطجة أو بدون اشتباكات وألفاظ خارجة أو سرقة؟.
دعونا نحلم وقد يتحقق الحلم وقد لا يتحقق..
المشهد صوت وصورة:
"هرم هرم هرم" بهذه الجملة نادى سائق المكيروباص، فركبت معه وبدأت رحلتى مع أم محمد التى جلست بجانبى، هى سيدة عاملة فى إحدى الشركات بوسط البلد، وفى منتصف عمرها. وفجأة سمعت "أيوه أيوه حاضر حاضر حاضر" هذه نغمة تليفونها المحمول، وهى أغنية للفنان محمد سعد من فيلم "كركر"، وردت على تليفونها، وهذا طبيعى من حق أى شخص الاتصال واستقبال مكالماته الشخصية.. ولكن؟، ألو ألوو ألووووو، فبدا صوتها يعلو وأذنى منعمة برنينه، تستكمل: أنا سمعاك يا أبو محمد إنت بتتكلم من النت ولا إيه؟ (الظاهر إنه خارج مصر) أيوه يا حبيبى أنا سمعاك كويس إنت سامعنى؟ وهنا قلت فى نفسى: "مصر كلها سمعتك يا أم محمد هو مش حيسمعك!!".
إحنا كويسين قوى إنت عامل إيه؟ والتحيات والسلامات مستمرة أكثر من 10 دقائق، وبدأت تتحمس فى الحديث، وصوتها يعلو أكثر وأكثر، وتسرد له ما حدث فى الفترة الماضية، وجميعنا فى مقاعد المستمعين .. كم كنت غاضبة من صوتها العالى، وأصابنى بصداع، وكان يشاركنى ذلك جميع من كانوا فى الميكروباص، وكم تمنيت إن البطارية تفصل وقتها أو الشبكة تقطع، أى شىء يرحمنا من مواضيعها الشخصية، وبدأت الناس تتمتم فى نفسها، لكن فجأة تحول الموضوع بالنسبة لى إلى نكتة غريبة أضحكتنى، عندما بدأت أم محمد تشكى لزوجها من حماة ابنتها، وأنها لا تقصر فى شىء معها، وكل زيارة لها تأخد الفواكة والهدايا وغيره، ورغم ذلك تعامل ابنتها معاملة سيئة، وفجأة التفتت إلى جانبها الآخر، فكان يجلس شاب ليشاركها الرأى، وقالت له: برده يا بنى ده يرضى حد حرام ولا حلال ده.
أم محمد لم تستكفِ أن نسمعها فقط، بل أحبت أن نشاركها فى الرأى، حيث قال لها أحد الركاب "متزعليش يا حاجة اعملى الخير وارميه فى البحر، محدش واخد معاه حاجة".
تركت الموبايل وهى تقول: ثانية يا أبو محمد، والله يا حج ربنا يعلم أنا مش مقصرة مع بنتى ولا جوزها فى حاجة، ورجعت لزوجها على الموبايل: اسكت كمان على اللى حصل، وهنا قلت فى نفسى: "خير إيه تانى؟" شفت يا أبو محمد ابنك محمد قال إيه بيحب بنت استرالية، من البتاع اللى اسمه النت و"الفيس بلوووك!!"، وقال إيه عايز يسافر لها .. والنبى ارجع أنا مش قادرة عليه وهادد حيلى .. وبدأنا نتعاطف معها، وهنا قال لها السائق "متزعليش نفسك هى سنة الحياة كده، نربيهم وبعد كده يسيبونا ويمشوا".
ساعة كاملة مع حكاوى أم محمد وكم شعرت بسعادة، عندما قال السائق "حد نازل شارع العريش"، فقفزت من الميكروباص لأودع أم محمد لتستكمل رحلتها مع باقى الميكروباص..