|
| |
| سيف الاسلام القذافى نجل الرئيس الليبى |
|
|
أليس غريبا أن يخيم هذا السكون المريب على الأنظمة العربية حول الجرائم التي يرتكبها القذافي بحق الشعب الليبي؟. فحتى هذه اللحظة لم نسمع نظاماً عربياً واحداً أقدم حتى على مجرد الاستنكار والشجب لما تقوم به كتائب القذافي الأمنية بحق المتظاهرين الليبيين، من أعمال القتل والتدمير التي ترقى لمستوى الإبادة الجماعية، باستثناء موافقة الوفد القطري على طرد نظام القذافي من منظمة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتحدة.
فقد كفاهم القذافي جهد البحث عن طبيعة ما يجري على الأرض الليبية ليحددوا مواقفهم من هذا النظام ، حين أعلن في خطبه المتشنجة بأنه سيطهر المدن والبلدات الليبية بيتاً بيتاً ممن ثاروا على نظامه، والذين وصفهم بالجرذان ومتعاطي حبوب الهلوسة والمخدرات. ومع ذلك لم يبدِ أي نظام عربي حتى اللحظة أي حراك نحو اتخاذ إجراء ما، من أجل وقف هذا القذافي عن تنفيذ تهديداته الإجرامية بشأن حرق الأخضر واليابس وإحالة أرض ليبيا لحمام من الدم، ما لم تتوقف المظاهرات الاحتجاجية ضد نظامه.
وبدلا من أن تقوم الأنظمة العربية التي تمتلك مئات الطائرات المقاتلة الحديثة والقادرة على فرض حظر جوي على الطيران في السماء الليبية، لمنع القذافي من استخدام الطائرات الحربية الليبية من قصف المتظاهرين، والتي ثبت أن مرتزقة من أوكرانيا والصرب يقودونها، آثروا أن يتركوا هذا الأمر للدول الأوربية التي يعرفون جيداً أنها لن تتحرك، إلا بعد أن يوقع هذا المجرم أكبر خسائر ممكنة بين المحتجين، وبعد أن تتعقد الأمور بحيث يصعب حلها دون الرجوع للغرب الذي لا يهمه هذا الأمر بقدر ما يهمه استمرار تدفق النفط الليبي لبلدانه دون عائق.
وهذا أمر طبيعي، ذلك أن هدف التدخل الغربي فيما يجري في ليبيا إذا ما حدث، لا بد وأن يتقاطع مع مصالح الدول الغربية التي يهمها في المقام الأول استقرار النظام الحاكم أيا كان رأس هذا النظام.
غير أن هذا التدخل لا يمكن أن يتوافق مع أهداف الثورة، إذا كانت تسعى ليس لمجرد التخلص من النظام المستبد الذي يتزعمه هذا القذافي، وإنما تستهدف التحرر من كل القيود والاتفاقات التي عقدها هذا النظام التي ترى فيها إهداراً لأموال الشعب الليبي، إضافة للقضاء على الفساد الذي استشرى في المؤسسات الحكومية كالهشيم، والذي أودى بمعظم عائداته النفطية إلى جيوب عائلة القذافي وأبنائه والمقربين منه.
وقد تردد على نطاق واسع أن هناك فجوة كبيرة بين إيرادات الدولة من النفط، وبين ما كان يصرف على تسيير شئون الدولة، ما يعني أن ثمة أموالاً طائلة لم يعرف مصيرها سوى القذافي وأبناؤه وأعوانه.
وتقول آخر الأخبار أن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث العديد من الخيارات لإيقاف الجرائم التي يرتكبها القذافي بحق الشعب الليبي بما في ذلك الخيار العسكري. وكانت أخبار أخرى قد ترددت على لسان أحد المتحدثين باسم الإدارة الأمريكية، عن أن ما يهم أمريكا بالدرجة الأولى هو ترحيل رعاياها، ومن ثم يأتي النظر فيما ينبغي عمله إزاء حمام الذي ارتكبه القذافي وما زال بحق المحتجين، حتى يتم إعادة الاستقرار والأمن لهذا البلد الذي يعتمد عليه الغرب في الحصول على جزء من احتياجاته النفطية.
لقد كشفت الثورة في ليبيا جرائم لم يكن بالإمكان تخيل وقوعها من هذا القذافي، الذي طالما تشدق بعبارات الوطنية والحرية والكرامة والوحدة والتحرر من الاستعمار والفساد، حتى أن الدول الأفريقية لقبته (على سبيل الضحك على الذقون إن لم يكن التفكه على ما نعتقد) بـ "ملك ملوك أفريقيا".
ومع ذلك لم نجد أيا من الزعماء العرب يجرؤ على مجرد انتقاد أفعاله وتصريحاته في الماضي، كما الحال بالنسبة لما يرتكبه الآن من جرائم بحق الشعب الليبي. وكان من نتيجة ذلك أن تضخم لديه الشعور بالعظمة لدرجة الجنون والعته، الذي نعتقد بأنه لم يعد في مقدور أي عالم نفس تشخيصه وعلاجه على نحو سوي.
الأمر الذي يخرج عن نطاق المنطق، أن هذا الرجل لم يعد يدرك حقيقة المتغيرات المتسارعة التي تقع من حوله. فمعظم أعضاء السلك الدبلوماسي الليبي في الخارج من سفراء وقناصله وممثلين لدى الدول والهيئات الأممية، أعلنوا معارضتهم للجرائم التي يرتكبها هذا القذافي وأبناؤه بحق الشعب الليبي الأعزل.
زد على ذلك أن الدول الغربية بدأت تضيق ذرعاً بجرائم هذا القذافي، لدرجة أن عددا من الدول الأوربية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا باتت ترى ضرورة تنحيته عن منصبه .. وهي الدول التي عادة ما تعمل على إجهاض أي تحرك ثوري في المنطقة، يسعى للتحرر من السيطرة الغربية، ويعمل على تحقيق الندية في التعامل معها.
أضف إلى ذلك أن المنطقة الشرقية من ليبيا، بمدنها وبلداتها وقراها وواحاتها، خرجت على نظام القذافي وباتت تخضع لسيطرة الثوار. ناهيك عن أن معظم بلدات الغرب الليبي وما يحيط بطرابلس العاصمة من مدن وقرى، قد ثارت وتحررت من قبضته، حيث لم يبق تحت سيطرة قواته التي يقودها أبناؤه سوى الساحة الخضراء وأجزاء من وسط المدينة، وموقع بوابة العزيزيه الذي يتمترس فيه مع أبنائه وأعوانه. أما باقي أحياء طرابلس وبخاصة الفقيرة منها فلم تعد خاضعة لسيطرته.
ويبدو أن ما يحرص عليه هذا القذافي الآن، هو سد منافذ مدينة طرابلس، لمنع الثوار القادمين من المدن المجاورة، ومن القبائل التي أعلن معظمها العصيان عليه لمساعدة إخوانهم في طرابلس، وفك الحصار عنهم من المرتزقة والقتلة الذين ما زالوا يأتمرون بأمر هذا القذافي.
لقد أظهرت التقارير الموثقة بالصور والوقائع على الأرض وفي الفضائيات الأجنبية قبل العربية، أن العديد من تشكيلات الجيش الليبي قد انحازت للثوار. كما أن العديد ممن يعتبرون من أكثر الناس التصاقا بالقذافي قد تخلوا عنه، مطالبين بوقف المجازر التي ارتكبها وما زال يهدد بارتكابها بحق شعبه. ومع ذلك رأيناه بالأمس في آخر خطاب له، ينعق بالإنذارات للثائرين ويهددهم بأنه سيحيل الأخضر واليابس لبحيرة من الدماء، إذا ما استمرت المظاهرات.
غير أن أغرب ما يمكن أن يصدر عن أي إنسان حتى لو كان معتوها أو مجنونا (والقذافي لا يمكن إلا أن يكون كذلك)، قوله بأن هؤلاء الثوار الذين يسيطرون على ما لا يقل عن 90% من أرض ليبيا، يتعاطون حبوب الهلوسة والمخدرات التي تدفعهم للاستمرار في التظاهر ليس إلاَّ !!!، وإن على أمهات الشباب أن يستدعين أبناءهن ويدعونهم للكف عن التظاهر حفاظاً على أرواحهم.
فلو كان الأمر (أي تعاطي الشباب لحبوب الهلوسة والمخدرات) على هذا النحو، فهذا مردود عليه وعلى نظامه المجنون. ذلك أن التسليم بهذه الأكذوبة المضحكة، يعني أن نظامه الفاشل هو المسئول عنها، لأنه يعني- ببساطة- عجزه عن وقف انتشار حبوب الهلوسة والمخدرات بين أفراد الشعب قبل أن يثور عليه!!.
من المؤلم حقاً أن يلجأ القذافي لتبرير رفض الشعب الليبي لنظامه الاستبدادي الفاسد لمثل هذه الأكاذيب المضللة. ومع أنها لا تستحق الرد، غير أن من الضروري أن يفهم القاصي والداني والأصدقاء قبل الأعداء بأن شعب ليبيا .. (ليبيا المجاهد الشهيد عمر المختار) .. شعب متدين، عزيز النفس، معتز بشرفه وكرامته وشهامته وعروبته الأصيلة التي لم يصبها التلوث، كما حال نظام القذافي وأبنائه وأعوانه المجرمين.
بل يحق لهذا الشعب أن يتبرأ من هذا القذافي، الذي سمح لنفسه أن يقصف أبناء الشعب الليبي الأعزل بالطائرات وقنابل المدفعية وقذائف الآر بي جي والرشاشات بأنواعها، ويوقع المئات إن لم يكن الآلاف من الشهداء الأبرار إضافة إلى آلاف الجرحى.
والسؤال الذي يلح الآن على كل إنسان في هذا الكون : كيف للشعب الليبي أن يخرج من هذه المحنة سليما معافى وبأقل الخسائر، بعد أن استخدم هذا القذافي كافة أساليب الجريمة من قتل وحرق وتدمير وترهيب وتهديد للآمنين في بيوتهم، والتي طالت آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى؟.
فمن سمع (في إحدى الفضائيات الأجنبية) نبرات الرعب والخوف في صوت تلك الفتاة، حين انقطعت الكهرباء عن الحي الذي تسكنه في مدينة طرابلس .. إلاَّ واعتبر أن هذا القذافي فاقد لكل مشاعر الإنسانية النبيلة. فقد ظنت وعائلتها أن هذا الانقطاع يعني شروع مرتزقة القذافي وأبنائه في تنفيذ مجزرة في الحي الذي تسكنه، ولم تهدأ الفتاة إلا حين علمت بأن هذا الانقطاع كان عاديا، حيث لم تنقطع الكهرباء عن مناطق أخرى في المدينة.
والواقع الحالة الليبية هذه تتصف بدرجة عالية من التعقيد، بحيث لا يستطيع المرء أن يتنبأ بما قد يحدث بعد ساعة أو يوم أو أكثر. ومرد هذا التعقيد يعود في جزء كبير منه إلى تضخم شعور القذافي بداء العظمة المفرطة التي صورت له بأنه هو وحده صانع ليبيا، وأن عظمة ليبيا وكرامتها ومجدها مستمد من عظمته ومجده.
ولعل ما يؤيد هذا الرأي، أن ثورة الفاتح من سبتمبر التي قادها القذافي ضد الملكية، جاءت في وقت كانت هزيمة 67 ما زالت تخيم على المنطقة. لذلك اعتبرت هذه الثورة بمثابة شعاع ساهم في تبديد الظلمة الحالكة التي سادت المنطقة بعد تلك الهزيمة. وقد أصبغ الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (الذي حظي على حب الجماهير العربية) على هذا العقيد من أوصاف الثورية الوطنية، ما جعل القذافي يعتقد بأنه الوريث الشرعي والوحيد لعبد الناصر في قيادة هذه الأمة.
ونتيجة لذلك، بدا أن هذا العقيد قد أصابه مسٌّ من الغرور (إن لم يكن جنون العظمة)، حين عامله الزعماء العرب بتقدير ورعاية لا يستحقها احتراماً للزعيم الراحل عبد الناصر وليس اقتناعا به. كما تعامل بقدر كبير من الغطرسة والصلف مع زعماء الغرب، معتقداً أن لدية من خصائص الزعامة ما يمكنه من الوقوف أمامهم في كل القضايا التي تثار معهم. ويبدو أنه نسي أو تناسى أن النفاق كان سيد تعامل الغرب معه، ليس خوفا منه وإنما حرصاً على تدفق النفط الليبي الرخيص للغرب دون عائق.
ومع ذلك، وحين ضاقت أمريكا ذرعاً بصلفه، لم تتورع من توجيه ضربات جوية قاسية للقذافي، الأمر الذي يبدو أنه زاد من جنونه (برغم استنكار الأمة العربية قاطبة لهذا الفعل آنذاك). فبدا وكأن حاله يقول: كيف تجرؤ أمريكا على توجيه هكذا ضربة له، وهو الذي ورث الزعامة عن عبد الناصر الذي لم ينحنِ يوما ما لغطرسة الغرب.
كذلك لم يسلم القادة العرب من انتقادات القذافي وسلاطة لسانه، فتحاشوا الاقتراب منه والتعامل معه، حيث أباح لنفسه فعل كل شيء معهم، معتقداً بأنه الزعيم العربي الأوحد الذي يتصف بالوطنية.
غير أنه لم تمض سنوات حتى ظهرت عليه انحرافات جنون العظمة، والتي تمثلت في القيام بتصرفات غير منطقية، كتعيين حرسه الخاص من الفتيات العذارى، وكتعدد الأزياء الوطنية والنياشين العسكرية من كل نوع التي بات يظهر فيها في المناسبات وفي الأسفار التي قام بها، ما جعل المثقفين العرب يصفون حالته بمصطلح "mental case".
إلى ذلك، يعلم الجميع ما استحدثه من بدع، كتسميه ليبيا وبعض مدنها بأسماء غير مألوفة أذكر منها مسمى"الجماهيرية الليبية الاشتراكية الديمقراطية العظمى"، وتسمية مدينة بنغازي بـ"قاريونس"، واستبدال لقب وزير بألقاب أخري لا يوجد شبيه لها في عالم اليوم ولا الأمس، وأخيرا تشكيله للجان الشعبية وتشكيلات أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، ناهيك عن الكتاب الأخضر الذي جعل منه دستور البلاد.
|
| |
| معمر القذافى وابناؤه |
|
|
لكن أخطر ما اقترفه القذافي إهداره لثروة ليبيا الطائلة من عائدات النفط، حيث أنفق مبالغ طائلة على مشروعات وهمية، وأخرى لا يتناسب مردودها مع المبالغ التي صرفت عليها، مثل ما يسمى بـ"النهر العظيم" الذي كلف ليبيا نحو 25 مليون دولاراً، حين كانت للدولار قيمته العالية في أسواق المال العالمية. هذا بالإضافة إلى الفجوة الهائلة بين الإيرادات والمصروفات التي راحت لتستقر في جيوب القذافي وأبنائه وأعوانه.
ثم جاءت اتهامات الغرب له بتشجيع الإرهاب وتوفير الملاذ الآمن للإرهابيين. وكان من أظهر ما اتهم بارتكابه في هذا المجال إسقاط الطائرة الأمريكية "بان أمريكا" فوق بلدة لوكربي باسكتلندا. وكان من نتيجة ذلك أن فرضت الهيئة الأممية عقوبات قاسية على ليبيا استمرت أكثر من عشر سنوات (إن لم تخن الذاكرة). وفي النهاية اعترف بمسئولية ليبيا المدنية عن هذه الجريمة ودفع مبالغ طائلة كتعويضات لأهالي الضحايا.
ولم تسلم بعض الدول العربية من تصرفاته الغريبة، حيث دعا في السبعينات من القرن الماضي السيد موسى الصدر لزيارة ليبيا رسميا. غير أنه ورفيقيه لم يظهر لهم أثر حتى الآونة. فقد أخبر القذافي- آنذاك- الحكومة اللبنانية، بأن الصدر ورفاقيه غادروا ليبيا إلى إيطاليا. غير أن روما أنكرت وصولهم لإيطاليا، ما يعني أن احتمال اختفائهم في ليبيا بات أمراً مؤكداً.
لكن هذه التصرفات لم تمنع القذافي من أن يظهر انصياعه لمن يعتقد أن لديه القوة القادرة على قهره. فمنذ الغارة الأمريكية التي شنت عليه إن لم يكن قبلها، كان القذافي يبيت في خيمة، ويتنقل في الليلة الواحدة لأماكن عدة ليبيت فيها.
ويذهب البعض إلى اتهامه بالجبن الشديد عندما يقابله موقف يمكن أن يعرضه لخطر مهما دنت درجته. ويدللون على ذلك بأنه أمام تهديدات بوش، كشف عن برنامجه النووي، وأرشد عن الشركات والأشخاص الذين تعاونوا معه، إضافة إلى التعويضات التي دفعها لأهالي ضحايا طائرة بان أميركا وضحايا طائرة أخرى فرنسية كانت قد سقطت من قبل في إحدى الدول الأفريقية.
إلى ذلك، يعد الفساد والاستبداد والإذلال وانعدام العدالة في توزيع الثروات وفساد التعليم وانتشار البطالة وانخفاض مستوى معيشة الأفراد وندرة السكن المناسب، إضافة لطول المدة التي جثم فيها القذافي على صدور الليبيين .. كل هذه العوامل كانت الدافع الرئيس لثورة الشعب الليبي على جلاده الذي، رسخ في ذهنه أن مجد ليبيا مستمد من مجده، وأن ليبيا من دونه ما كانت لتصل إلى ما وصلت إليه من عزه وكرامة (وفق ما قاله في بعض خطبه) كما ذكرنا.
هنا نعتقد جازمين بأن هذا القذاف لن يخرج عن الأخذ بإحدى الخيارات التالية:
الأول: بسبب شعوره المفرط بالعظمة، واعتقاده بأن الشعب الليبي متيم بحبه، وأنه راضٍ به زعيما مدى الحياة، كان من الطبيعي أن يعتقد القذافي بأنه قادر على إعادة السيطرة على المنطقة الشرقية التي اعترف هو نفسه بأنها خرجت عن نطاق سيطرته.
غير أن هذا الخيار يبدو أنه غير قابل للتحقق. فلكي يستعيد سيطرته عل هذه المنطقة، لا بد أن تتوافر لدية نقطة ارتكاز قوية على الأرض .. ينطلق منها لتحقيق هذا الهدف. فإذا ما صدقت الأنباء التي ترددت مؤخراً عن فقد سيطرته على المدن المحيطة بطرابلس، وأن العديد من ضواحي مدينة طرابلس ذاتها تقع تحت سيطرة المتظاهرين، يصبح سعي القذافي لإعادة سيطرته على المنطقة الشرقية أمراً شبه مستحيل.
ومما يؤيد هذا الرأي أن العديد من مؤيديه قد انفضوا من حوله وانضموا للمحتجين، فضلاً عن معارضة الغالبية العظمى من القبائل الليبية لبقائه. ناهيك عن رفض المجتمع الدولي له ومناداتها بتنحيتة، ليس لسلوكه الإجرامي في التعامل مع شعب ليبيا فحسب، وإنما لأسباب أخرى تمس مصالح الدول الغربية بالذات على ما ذكرنا.
وفي هذا السياق، تردد أن العديد من المدن غرب طرابلس التي تعرضت لهجوم من القوات المؤيدة للقذافي بهدف استرجاع سيطرته عليها، استطاعت صد تلك القوات. وهذا يعني أن ثمة قطاعات مسلحة خرجت عن طوع القذافي وباتت تدعم المتظاهرين بالسلاح والرجال. كما تردد على نطاق واسع أن الطائرات الليبية التي استخدمت في قصف المدن والبلدات التي يسيطر عليها الثوار، قادها طيارون مرتزقة استقدمهم القذافي من أوكرانيا وصربيا، وأن بوارج حربية إيطالية كانت ترابط قبالة سواحل بنغازي هي التي قصفت المدينة في وقت سابق.
الثاني: إذا لم ينجح هذا القذافي في استعادة المنطقة الشرقية من أيدي الثوار، وحتى مع افتراض نجاحه في السيطرة على طرابلس وغرب ليبيا، فهذا يعنى (عمليا) تقسيم البلاد لقسمين (على الأقل) أو ثلاثة .. تكون المنطقة الشرقية خارج نطاق سيطرته.
بينما يفترض أن تدين له طرابلس والمدن والبلدات والقرى الواقعة غربها وحولها وهي ما تسمى بـ"غرب ليبيا"، (هذا إذا افترضنا نجاحه في بسط سيطرته عليها). أما الصحراء الليبية والمنطقة المسماة بـ "فزان" وحتى الجنوب، فمن المحتمل أن تظل محل نزاع بينه وبين المنطقة الشرقية التي تتزعمها مدينة بنغازي، مع أن الدلائل تشير إلى معارضتها له وانضمامها للثوار. وادعاء سيف القذافي بأن الهدوء يسود الجنوب فلأن هذا الجنوب بعيد عن الأحداث التي تدور في شمال البلاد الذي تفصل بينه وبين الجنوب صحراء شاسعة.
الثالث: احتمال تدخل أمريكا بخاصة والدول الأوروبية بعامة عسكرياً في ليبيا تحت دعاوى متعددة. فالتجارب أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أن الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا لا تتدخل عسكريا في منطقة ما، إلا إذا تيقنت من أن مصالحها فيها باتت معرضة لأخطار محققة.
وفي حالة ليبيا، فإن ثمة شكوكا تدور حول دفع أمريكا للأمور فيها نحو مزيد من التأزم والتعقيد، بحيث يبدو تدخلها العسكري وكأن له ما يبرره، وبخاصة بعد أن ادعت حرصها على تأييد المجتمع الدولي لها على التدخل بدعوى أنه سيمنع القذافي من القيام بمجازر مروعة ضد المحتجين كما هدد في خطبه.
والواقع أن هذا التدخل- إن وقع- لن يكون بهدف إنقاذ الشعب الليبي من جنون القذافي وتهديداته المروعة كغاية في ذاته، وإنما من أجل السيطرة على التغيرات الثورية المتسارعة التي قد تحدث في المنطقة، نتيجة نجاح الثورتين المصرية والتونسية من ناحية، والمحافظة على استمرار انسياب النفط الليبي لأمريكا وحلفائها الأوروبيين دون عائق من ناحية أخرى، الأمر الذي لا يمكن شرحه هنا بإسهاب.
ويكفي في هذا المقام أن نشير أن الغرب يعلم أن رياح التغيير التي باتت تهب بشده غير متوقعة على المنطقة العربية، قد تعرض مصالح أمريكا ودول أوروبا فيها للخطر. وأغلب الظن أن الاستراتيجيين الأمريكيين والأوروبيين يعتقدون، بأنه ما لم تظهر دولهم استعدادها- جدياً- للتدخل عسكريا ضد كل من يحاول التعرض لمصالحها في المنطقة وبخاصة النفطية منها، فسوف يشجع هذا الموقف من يسميهم الغرب بـ"المتطرفين الإسلاميين" على التعرض للمصالح الغربية في المنطقة العربية، الأمر الذي لا ينبغي القبول به تحت أي ظرف، (بحسب رأي الاستراتيجيين الغربيين).
ولعل من المفيد أن نذكر الشعب الليبي والشعوب العربية والعالم أجمع، بأن "سيف القذافي" تجاوز كل حدود المنطق، حين أعلن أنه ووالده على استعداد للتفاوض مع الثوار ليصلوا إلى حلول للوضع. وأحسب أن هذه الدعوة في رأي الليبيين الأحرار قبل غيرهم تأتي في سياق "الاستهبال" بعد أن شن نظام أبيه حرباً دمويا شعواء ضد المتظاهرين العزل وأوقع فيهم آلاف الشهداء والجرحى دون وازع من دين أو ضمير.
ومن جانبنا نسأل ومن قبلنا لا بد أن يسأل ثوار ليبيا: