على وقع صرخات مئات الآلاف من المتظاهرين الذين اجتاحوا ميادين معظم المدن المصرية مطالبين الرئيس حسني مبارك بالرحيل، تبلور حل سياسي يدعوه الى نقل صلاحياته الى نائبه عمر سليمان لإنهاء الأزمة، وهو حل يتبناه حالياً عدد من الرموز السياسية في مقدمهم الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الذي اتجه الى ميدان التحرير في وسط القاهرة للحصول على تفويض من نحو مليون متظاهر معارض كانوا يحتشدون فيه ضمن تظاهرات "جمعة الرحيل".
وتحول ميدان التحرير الى قبلة لحشود ضخمة منذ الصباح رغم المخاوف من البلطجة وإغلاق مداخل القاهرة إذ تجمع فيه ما يقارب المليون شخص. وكانت كبرى مفاجآت يوم أمس انضمام الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الى المتظاهرين في ميدان التحرير، إلا أنه قال إنه جاء للتهدئة والتوصل الى حل وسط. وحظي موسى بترحيب كبير من المتظاهرين الذين وصفوه بـ"رئيس مصر المقبل".
وعلمت "المستقبل" أن موسى اجتمع، قبل توجهه الى ميدان التحرير، مع عدد من المفكرين والسياسيين في مقر جريدة "الشروق" في حي المهندسين في الجيزة لبلورة حل وسط يقوم على تفويض الرئيس صلاحياته لمصلحة نائبه عمر سليمان.
وسادت مخاوف من الظهور البارز لجماعة "الاخوان المسلمين" في تظاهرات أمس غير أنها حرصت على عدم تسييد شعاراتها.
ودعا رئيس مجلس الوزراء أحمد شفيق الشباب المجتمعين في ميدان التحرير في وسط القاهرة الى إنهاء تظاهراتهم بسلام، وبخاصة بعد أن تمت الاستجابة الى أكثر من تسعين في المئة من مطالبهم، بحسب تعبيره، كما أعلن الرئيس مبارك أنه لن يترشح هو أو نجله جمال الى انتخابات الرئاسة المقبلة.
وأعرب شفيق، في مقابلة تلفزيونية أذيعت أمس، عن أمله في أن يتم التغيير والانتقال السلمي للسلطة بأسلوب متحضر وكريم يليق بمصر وشعبها، مستبعداً في الوقت نفسه أن يقبل الرئيس بتفويض صلاحياته لنائبه عمر سليمان.
وبدأت ما أطلق عليها "لجنة الحكماء" التي تضم شخصيات مستقلة بينها عمرو موسى وأحمد كمال أبو المجد، وأحمد زويل ونجيب ساويرس، وجودت الملط وأسامة الغزالي حرب وعمرو حمزاوي ومنير فخري عبدالنور والإعلامي محمود سعد، تحركات للتواصل مع شباب المتظاهرين، في محاولة لإيجاد مخرج للأزمة المصرية الحالية.
وشدد أحمد كمال أبو المجد عضو اللجنة والنائب السابق للمجلس القومي لحقوق الإنسان، على أهمية تأمين سلامة المتظاهرين الموجودين حالياً في ميدان التحرير وأن تكون الحكومة مسؤولة عن تأمينهم تماماً في الدخول والخروج من وإلى الميدان.
وأشار إلى أن أعضاء مجلس الحكماء اجتمعوا الى نائب رئيس الجمهورية عمر سليمان والفريق أحمد شفيق رئيس مجلس الوزراء قبل أن يتوجهوا الى المتظاهرين في الميدان لعرض اقتراح تأمين المتظاهرين الذي يعد حجر الأساس لفض التظاهر، بحسب أبو المجد، الذي قال "فوجئنا بقبول وتوافق كبير جداً من جانب سليمان وشفيق، بشأن اقتراحنا".
ووصف أبو المجد هذه الخطوة بأنها "اللبنة الأولى" لزرع الثقة من جديد بين المتظاهرين والحكومة.
إلا أن رئيس الوزراء قال في مقابلة مع قناة "العربية" مساء أمس إنه "لا داعي لتنحي الرئيس، إننا نحتاج لبقاء الرئيس لأسباب تشريعية ووجوده نوع من صمام الأمان". وأضاف رداً على الدعوات الخارجية لتنحي مبارك "هناك شيء اسمه الكرامة، للخارج أن يعبر عن رأيه لكن عندما يطالبون بتنحي مبارك الآن فهذا غير مقبول".
في المقابل أكد عضو لجنة الحكماء ضياء رشوان أنه وآخرين تلقوا دعوة للقاء عمر سليمان لبحث الحلول للأزمة بناء على مادة في الدستور تسمح للرئيس حسني مبارك بتفويض سلطاته لنائبه.
كما قال رشوان إن شخصيات من المعارضة أيدت مقترح نقل السلطات إلى سليمان، وأضاف "الحل الوحيد هو أن يسلم مبارك السلطة لسليمان". وأضاف: "قيادات المعارضة منقسمة بشدة لدرجة أنه لا يوجد خيار واضح متاح خارج المؤسسة الحاكمة".
وكانت لجنة الحكماء قدمت مجموعة من الاقتراحات لشباب المتظاهرين لتكون محوراً للحوار بينهم والحكومة المصرية، وعندما حاول أبو المجد نقل الاقتراحات الى المتظاهرين في ميدان التحرير، قاطعوه ورفض عدد كبير منهم الإنصات لها، الأمر الذي اضطره ومعظم أعضاء لجنة الحكماء الى العودة إلى مقر جامعة الدول العربية، القريب من ميدان التحرير، وسط انقسامات كبيرة بين مؤيدي الاقتراحات ورافضيها لأسباب مختلفة.
وفي المواقف، أكد رئيس الجمعية الوطنية للتغيير محمد البرادعي، أنه "إذا رحل مبارك الآن فسيكون رحيلاً آمناً وبكرامة"، محذراً في الوقت نفسه من احتمال حدوث عنف في حال عدم استجابة الرئيس في ظل مطالبة الجميع في الداخل والخارج بانتقال فوري للسلطة.
وقال البرادعي في مؤتمر صحافي عقده أمس في منزله "إذا رحل مبارك سيكون هذا بالأسلوب اللائق الحضاري وبكرامة، وإن تسعين في المئة من المتظاهرين سيعودون إلى منازلهم إذا رحل مبارك".
واقترح البرادعي خطوات عدة بعد رحيل مبارك الذي اعتبره الحل الأول للخروج من المأزق الذي تعيشه البلاد، من بينها تشكيل مجلس رئاسي لا ينتمي أعضاؤه إلى تيارات سياسية، على أن يمثل فيه أحد الشخصيات من الجيش لضمان حماية الانتقال للديموقراطية ويقوم بإدارة مصر لفترة انتقالية مدتها سنة على أن يتم الإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية، ويتم وضع دستور موقت خلال هذه السنة وتُلغى القيود على تأسيس الأحزاب وعلى حرية الصحافة.
وفي ميدان التحرير الذي بقي مكتظاً بالمعتصمين ليلاً، كان المتظاهرون أدوا صلاة الجمعة والعصر وسط الميدان، وما أن فرغوا من الصلاة حتى بدأوا في ترديد هتافات تطالب برحيل الرئيس مبارك ومحاكمة أركان نظامه. وقام رجال القوات المسلحة بتأمين المتظاهرين وفرض طوق أمني على جميع المداخل المؤدية الى ميدان التحرير، فيما قام بعض المتظاهرين ممن شكلوا لجاناً شعبية لحماية المتظاهرين بتفتيش جميع من يدخل إلى الميدان تفتيشاً دقيقاً.
وقام ضابط عسكري برتبة كبيرة بإلقاء خطبة في المتظاهرين، أكد فيها أن قوات الجيش منعت دخول تظاهرات تأييد مبارك الى ميدان التحرير للحيلولة دون وقوع أي اشتباكات، كما وضعت حواجز لحماية المتظاهرين في الميدان. وناشد المتظاهرين عدم الانجرار وراء الشائعات، مؤكداً أن الجيش هو الذي يتولى حماية الميدان وليس الشرطة، مشدداً في ختام كلمته على أن الجيش سيحافظ على موقفه بعدم إطلاق رصاصة على المتظاهرين حتى آخر نقطة فى دماء جنوده، وهو الموقف الذي قوبل بترحيب كبير من جموع المتظاهرين.
وتجددت الصدامات بين المؤيدين والمعارضين عصر أمس على أطراف الميدان حيث تبادل الطرفان القذف بالحجارة وأدت الصدامات الى وقوع مصابين تم نقلهم الى المستشفى الميداني الذي يتولاه عدد من الأطباء المتطوعين.
واعتقلت قوات الأمن عدداً من الناشطين السياسيين وقادة الشباب المتواجدين في ميدان التحرير خلال تواجدهم في مقر مركز هشام مبارك للقانون مساء أول من أمس بعد اجتماعهم مع محمد البرادعي حيث كان الشباب يعتزمون التواصل مع نائب الرئيس عمر سليمان.
وعلى الرغم من ذلك، بدت الأوضاع أكثر هدوءاً من الأيام الماضية، الأمر الذي دفع السلطات الأمنية المصرية الى إعلان تقصير مدة حظر التجول من الخامسة مساء الى السابعة مساء وحتى السادسة صباحاً، اعتباراً من اليوم.
في مواقف داخلية أخرى، رفضت المعارضة تحذير الرئيس مبارك من أن تنحيه حالياً سيسقط البلاد في الفوضى، كما أعلنت أحزاب رئيسية هي "الوفد" و"التجمع" و"الناصري" أنها ستدخل الحوار مع نائب رئيس الجمهورية عقب نهاية تظاهرة الأمس.
وقال السيد البدوي رئيس حزب "الوفد" إن "الحلول للأزمة تبدأ بتعديلات دستورية تتيح تداول السلطة، وفي أيلول (سبتمبر) المقبل سيختار الشعب المصري رئيسه للمرة الأولى في تاريخ مصر".
وأكد سعد عبود، عضو البرلمان الشعبي، أن قوى المعارضة والمتظاهرين في ميدان التحرير لديهم مطلب واحد وهو رحيل مبارك من رئاسة الجمهورية، مشيراً الى أن مبارك هو السبب الرئيسي في هذه الفوضى.
وأضاف عبود أن إصرار مبارك على الاستمرار في منصب رئيس الجمهورية وعناده هما اللذان تسببا في الفوضى فضلاً عن البلطجية الذين أرسلهم يوم الأربعاء الفائت الى الميدان، مؤكداً أن ما حدث في ذلك اليوم كان تحت علمه وعلم النظام وأن من أرسلوهم هم رموز الحزب الوطني.
واتفق معه وكيل مؤسس حزب "الكرامة" (قيد التأسيس) أمين اسكندر، وأكد أن الفوضى الموجودة الآن في البلاد سببها عصابات البلطجة التي أطلقها رجال النظام وقادة الحزب الوطني والذين فروا من الخدمة في وزارة الداخلية.
أضاف أنه كمواطن مصري لا يوجد ما يمنع بقاءه في مصر حتى يدفن فيها، مضيفاً أنه من المتوقع محاكمته في العديد من القضايا التي يجب أن يُسأل عنها بعد تركه منصبه.
وأكد أبو العز الحريري، عضو البرلمان الشعبي، أن الفوضى الحقيقية هي استمرار نظام مبارك الحالي بأكمله، مضيفاً أن "مبارك هو الذي أوقف الحياة في مصر وفرض حظر التجول".
وأيده مؤسس حزب "الغد" أيمن نور، قائلاً "لا أعتقد أنه يوجد فوضى أكثر من التي تحدث الآن في الشارع المصري، بسبب عناد الرئيس وإصراره على بقائه في موضعه".
ووصف المنسق العام السابق لحركة "كفاية" عبد الحليم قنديل ما يقوله الرئيس مبارك عن حدوث فوضى في البلاد حال تنحيه بأنه "محاولة من الرئيس للالتفاف حول مطالب الشعب والتي من أهمها تنحي الرئيس المنتهية شرعيته عن الحكم".
وأصدر النائب العام عبد المجيد محمود قراراً أمس بمنع وزير التجارة والصناعة السابق رشيد محمد رشيد وتجميد حساباته في البنوك "كإجراء وقائي حتى استكمال إجراءات التحقيق". وقال بيان للنائب العام إن هذا القرار "جاء استكمالاً لما تقوم به النيابة العامة من اتخاذ الإجراءات الاحترازية ضد بعض المسؤولين والتي كانت النيابة العامة قد تلقت بلاغات تناولتهم بشأن جرائم الاعتداء على المال العام".
وفي ردود الفعل الدولية، قال الرئيس الأميركي باراك أوباما إن "مناقشات" بدأت حول تفاصيل الانتقال السياسي في مصر. وأضاف أنه علم بأن "مناقشات" بدأت حول ترتيبات انتقال السلطة، محذراً من تعرض الصحافيين والمحتجين ونشطاء حقوق الإنسان لهجمات. وقال خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر "نستمر في القول بوضوح بإننا نعارض استخدام العنف في هذه الأزمة".
وأشار أوباما الى أنه أجرى اتصالين هاتفيين بمبارك وأكد له أن مستقبل مصر "بأيدي المصريين" وليس بأيدينا. وقال إن على مبارك أن يستمع الى المحتجين.
وواصل البنتاغون اتصالاته بالجيش المصري، وأعلن أن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس تحادث هاتفياً أمس مع نظيره المصري حسين طنطاوي.
وقال جيف موريل الناطق الصحافي باسم البنتاغون إن غيتس أجرى "رابع محادثة هاتفية مع وزير الدفاع المصري منذ بدء الوضع في مصر".
وفي أوروبا، طالب قادة دول الاتحاد الـ27 ببدء الانتقال الديموقراطي في مصر "الآن" وذلك في بيان مشترك دانوا فيه كذلك بـ"أقسى العبارات" أعمال العنف التي شهدتها مصر. ودعا القادة في قمتهم التي استغرقت يوماً واحداً في بروكسل "السلطات المصرية الى تلبية تطلعات الشعب المصري عن طريق تطبيق الإصلاحات السياسية وليس عن طريق القمع". كما دعوا جميع الأطراف الى ضبط النفس وتجنب مزيد من العنف وبدء البلاد في الانتقال المنظم الى حكومة ذات قاعدة عريضة.
وأعلن الاتحاد الدولي للصحافيين الذي يتخذ مقراً في بروكسل أنه وجه رسالة الى رئيس الوزراء المصري أحمد شفيق تطالب بوقف استهداف الصحافيين وبتعهد حكومته حمايتهم. وقال رئيس الاتحاد جيم بوملحة في الرسالة "اكتب لك نيابة عن الاتحاد الدولي للصحافيين، الذي يمثل 130 نقابة صحافيين حول العالم ويضم أكثر من 600000 صحافي، للاحتجاج بأقوى العبارات ضد الهجمات التي يقوم بها مؤيدون لرئيسك ضد الصحافيين الذين يغطون الأحداث الحالية في مصر".
