ين الأهواء السياسية والضغوط التمويلية، يصارع الخبراء والفنيون في «مبادرة حوض النيل» من أجل إسماع صوتهم واستكمال دراساتهم التي تؤكد حتمية التعاون البناء تحقيقاً للفوائد المشتركة، فهل نستطيع أن نعوّل على المجتمع المدني والجمعيات الأهلية للوصول بهذا الصوت إلى القاعدة العريضة من مجتمعات حوض نهر النيل، هذه القاعدة التي كثيراً ما تتعجل التنمية وجني الثمار في ظل تحديات صعبة تواجهها كالفقر والزيادة السكانية وضعف معدلات التنمية والتدهور البيئي والتغيرات المناخية وغيرها؟ هل مفاهيم مثل بناء الثقة و «الكل فائز» والفوائد المشتركة والتعاون، تلك التي ترددت كثيراً منذ بدء عمل مبادرة حوض نهر النيل في عام 1999 تشكل الآن رؤية حقيقية واقتناعاً جازماً لدى مجتمعات حوض النيل بكل طوائفها؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه كلمات للاستهلاك الإعلامي أو الزيف السياسي؟
هذه بعض التساؤلات التي يثيرها الموقف المنقسم المحير بين دول حوض النهر الآن: مصر والسودان من ناحية، وبقية الدول من ناحية أخرى، بعد توقيع بوروندي الاتفاق الإطاري وتسرب أخبار عن اعتزام الكونغو التوقيع الشهر المقبل. كانت هذه التساؤلات أيضاً محل نقاش واسع في الاجتماع شبه الإقليمي للمنتدى الدولي لحوض النيل الذي عقد أخيراً في القاهرة وحضره ممثلو الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني في دول حوض النيل الشرقي: مصر والسودان وأثيوبيا تحت عنوان «مياه مشتركة، فرص مشتركة». وتركزت فعاليات المنتدى على نقاط رئيسة عدة، منها توضيح الفوائد المشتركة التي ستجنيها شعوب النيل الشرقي من جراء التعاون في مشاريع المبادرة ومكتب التعاون الفني المصري السوداني الأثيوبي - الإنترو - حيث عرضت مشاريع عدة تحقق هذه الفوائد، ومنها مشروع حول مناطق تجميع الأمطار التي تحيط بالمجرى المائي، إذ تتعرض هذه المناطق للتجريف وتدهور التربة نتيجة تدمير الغطاء النباتي، وبالتالي يحدث خلل في النظام الطبيعي لسريان المياه، ما يساعد على حدوث الفيضانات. وهذا المشروع هو أحد المشاريع المهمة التي بدأت في مناطق عدة في مصر والسودان وأثيوبيا، وحققت نتائج جيدة جداً على الأرض واستفادت منها المجتمعات المحلية بعد أن تحسنت التربة عرضت أيضاً مشاريع أخرى تؤكد فكرة الفوائد المشتركة وهي مشاريع الربط الكهربائي وتجارة الطاقة بين مصر والسودان وأثيوبيا والتي اكتملت الدراسات المبدئية المختصة بها، ومن المشاريع التي تم عرضها أيضاً مشروع الإنذار المبكر والتنبؤ بالفيضان ومشروع خاص بتطوير نظم الري ومشروع آخر متعدد الأغراض التنموية نُفذت منه المرحلة الأولى فقط وفي انتظار التمويل للبدء في المرحلة الثانية.
كما ركزت أعمال الاجتماع على تقديم نماذج ناجحة للتعاون في أحواض أنهار أخرى، حيث عرضت تجربة نهر السنغال التي نجحت بفعل الالتزام السياسي والتعاون والمشاركة الواسعة من الجمعيات الأهلية والمجتمعات المدنية، كما تم بحث الجوانب القانونية التي نظمت العلاقة بين دول حوض النهر. وأكدت النقاشات أهمية التعاون والشراكة والآثار السلبية الناجمة عن عدم تحقيق هذا التعاون بأشكاله المختلفة وضرورة رفع وعي المجتمعات المحلية في دول الحوض بالمنافع المشتركة والتي ستحقق للجميع التنمية المستدامة وضرورة تعاون منظمات المجتمع المدني بهذه الدول بغض النظر عن المتغيرات واختلاف الآراء السياسية وأن السلام والأمن لا يقدران بثمن، كما أنه لا بد من تفعيل دور المجتمع المدني للقضاء على الخلافات والضغط من أجل التعاون بدلاً من التناحر السياسي.
ما بين السياسيين والخبراء
التقت «الحياة» مجموعة من الخبراء على هامش الاجتماع للتوصل إلى إجابات عن الكثير من الأسئلة المطروحة الآن، ومنها أسباب استمرار الخلاف بين دول حوض نهر النيل وذلك على عكس ما يقوله الخبراء والفنيون. توجهنا بهذا السؤال إلى الدكتور شريف محمدي، مدير المشاريع في مكتب التعاون الفني المصري - السوداني - الأثيوبي، فقال إنه مقتنع بأن دور الفنيين والخبراء أساسي لإقناع القانونيين والسياسيين بضرورة التعاون، لأنه السبيل الوحيد لتحقيق الفائدة للجميع.
وأضاف: «للأسف يحدث الآن نوع من الهرولة نحو وجود الاتفاقية الإطارية على رغم أن الأمر يحتاج إلى بعض الوقت ولو ضربنا مثلاً بالنيل الشرقي فلدينا خطة عمل ودراسات، كان من المفروض أن نقدمها في أيلول (سبتمبر) 2011 بوصفها مجموعة متكاملة تطرح حلولاً من خلال مشاريع استثمارية في حوض النيل الشرقي من أجل توليد الكهرباء واستغلال الطاقة وإدارة الموارد الطبيعية، ونحن لسنا بعيدين عن السياسيين. هم يعلمون بهذه الدراسات لكن التناقض يكمن في اختلاف توجهاتهم، فبعضهم يريد أن يحقق التنمية بأسرع وقت حتى وإن على حساب الاستمرارية وبعضهم يتعجل نتائج الدراسات وآخرون لا يثقون بالدراسات الفنية المعمقة التي تحتاج بالطبع إلى وقت كافٍ، فيهرولون إلى استشارات سريعة تكون خاطئة على المستوى الفني، وهذا التناقض أيضاً يحدث نتيجة أن بعض الدول ليس لديها بالأساس وضوح رؤية عما تريد تحقيقه بالفعل. هل هي تريد التعاون فقط؟ هل التعاون هو ألا نخسر أم نكسب؟ هل نتعاون للحفاظ على بعض الأوضاع كما هي؟ وقال: السياسيون، للأسف، تدفعهم أشياء أخرى ولا يحترمون الجانب الفني بالقدر الكافي. وعما إذا كانت هناك قناعة تامة لدى الدول بالمشاريع التي تدرج في إطار مبادرة حوض النيل عبر اللجان الفنية التي يشارك فيها الجميع يقول في الغالب هناك قناعة ولكن بعضها يعاني من ضعف أو قصور فني وأحياناً بعض المشاريع كانت مجرد تقديم نماذج للتعاون وبعض المشاريع تحقق منفعة لدول أكثر من دول أخرى ولكن في شكل عام توجد إنجازات كبيرة ودراسات ممتازة والمشكلة أن السياسة لم تلعب دورها في حمل هذه الإنجازات وتعظيمها والعمل على تحقيقها، فاستمرت الخلافات وحدثت المشكلات.
وعن الانتقاد الموجه إلى عمل المكتب الفني ومشاريع المبادرة في شأن التباطؤ في إنجاز الدراسات الخاصة بالمشاريع، يقول محمدي: «مبادرة حوض نهر النيل لم تنشأ لتنفيذ مشاريع، بل لإيجاد الآليات الصحيحة لدراسات فنية علمية متعمقة لما يجب أن ينفذ على أرض الواقع من مشاريع. هي مبادرة فنية لتوضيح الإمكانات المتاحة والصعوبات، وكيف يمكن التغلب على هذه الصعوبات. والتباطؤ يحدث نتيجة بطء التمويل، فنحن لا نملك تمويل مشاريعنا ونضطر للتواؤم مع ظروف التمويل، وبالتالي هناك حزمة من المشاريع في انتظار التمويل كي ترى النور».
وعن تصوراته لتجاوز الخلافات بين الدول والتوصل لاتفاق يجمع عليه كل دول الحوض، يرى أنه لا بد من البدء فوراً في تقريب المسافة بين الفنيين والخبراء من ناحية والسياسيين من ناحية أخرى. والمجتمع المدني يمكن أن يضغط في هذا الإطار، كما يطرح فكرة تكوين مجموعة سماهم أبطالاً للتغيير من المجتمع المدني يتبنون فكر التكامل والتعاون ويديرون حواراً شاملاً مع الخبراء ومؤسسات المجتمع المدني للوصول إلى حلول تؤثر في القرار السياسي. أما عن الأخبار التي نشرت في الصحف الإثيوبية حول خطط إقامة سد بوردر بالقرب من الحدود السودانية والمقرر أن يخزن ما يقرب من 12 بليون متر مكعب من المياه.
ويختم محمدي: «إن إثيوبيا تزمع في إنشاء هذا السد، وهو أحد السدود التي لا تزال تحت الدراسة من خلال مكتب التعاون الفني «الإنترو»، ولكن من الواضح أن إثيوبيا تسارع في محاولة للضغط السياسي ولكننا كفنيين نرى أن إثيوبيا لا بد من أن تنتظر استكمال دراساتنا وأن السد بالشكل الذي أعلن عنه يضر بإثيوبيا من الناحية الفنية، خصوصاً أنها تبدأ ببناء سد في أقصى الغرب وكان من الطبيعي أن تبدأ بالسدود في الشرق على النيل الأزرق حيث تم بعض الدراسات الفنية في شأنها، ولذلك نحن نستغرب هذا الموقف الإثيوبي ونأمل في أن تراجع إثيوبيا نفسها في هذا الشأن».
والتقت «الحياة» أيضاً سفير أوغندا في القاهرة عمر لابولوو الذي قال إن دول حوض النيل تركز على توزيع المياه وإقامة المفوضية، وتنسى قضية يراها جوهرية وهي استمرارية تنمية مياه وموارد النهر وهذه الاستمرارية هي التي ستحقق الفوائد للجميع من خلال الاستماع إلى صوت العلم والتكنولوجيا. إن الاستمرارية تعني أن المياه ستستمر هي أيضاً في التدفق. إن وضع حلول لمشكلة الطاقة بدول حوض النهر يعد مدخلاً لحل الكثير من المشكلات الأخرى، فالقطع المستمر للأشجار للحصول على الطاقة في دول الحوض له أثر خطير على كل الموارد الطبيعية. ولا بد من أن تتفهم مصر حاجات الدول الأخرى.
يقول: «آمل أن أرى الكثير من الشركات المصرية في أوغندا لتنفيذ مشاريع تنموية، ومنها مشاريع إنتاج الطاقة بدلاً من أن نقطع الأشجار».
ويدعو لابولوو مصر والسودان للتوقيع على الاتفاقية وبناء الثقة بين دول حوض النيل، ويقول أيضاً إن هناك اجتماعاً رئاسياً مرتقباً ولكنه تأجل نظراً الى ظروف مصر.
مبدأ توافق الآراء
والتقت «الحياة» أيضاً أحمد المفتي، الخبير السوداني في مجال الجوانب القانونية للموارد المائية وأحواض الأنهار والذي شارك في الكثير من جولات التفاوض بين دول حوض نهر النيل، فقال:
إن الاتفاقات السابقة في1891، 1902، 1929، 1959، تؤكد التعاون والاعتراف بحقوق الآخر والالتزام بتحقيق المصالح المشتركة وهي تخدم الجميع ولم يكن المقصود بهذه الاتفاقيات إلزام الدول الأخرى بتوفير المياه لمصر والسودان بل التعبير عن تعاون كامل، فمثلاً اتفاقية 1902 بين مانليك ملك إثيوبيا والإدارة البريطانية هو من قام بصياغتها، وكانت إثيوبيا مستقلة حينذاك من أجل خدمة المصالح الإثيوبية باستقرار الحدود بين مصر والسودان ولكن معظم الحديث عن الاتفاقيات السابقة دار حول نقطة واحدة وهي إلزام بعض الدول بعدم اعتراض مجرى النهر، فلا بد من أن تدرس الاتفاقيات جيداً ولا تفرغ من محتواها واتفاقية 1959 بها نصوص تخص حقوق الدول الأخرى في حوض النهر، كما أن السودان وقعت اتفاقية مع إثيوبيا، كما أن مصر وقعت معها أيضاً في التسعينات وفي الاثنين بنود حول احترام حقوق الدول الأخرى في الاستخدام العادل والمنصف من دون التسبب بضرر، بل إن الاتفاقية الحالية التي وقعتها الدول الست وافقت مصر والسودان عليها من دون اعتراض، والخلاف على جزء من المادة 14 المتعلقة بالأمن المائي، وكان لا بد من إعطاء وقت أكبر لحين اتفاق الأطراف كافة على صيغة مشتركة، ولا بد من البناء على ما تم من اتفاقيات سابقة وتعاون سابق للوصول إلى اتفاق شامل. إن أي اتفاق جزئي لا يشمل الدول كافة، خسائره أكبر بكثير من مكاسبه. إن توقيع الدول الست على اتفاقية منفصلة لن يحل المشكلة ولن يشكل نصراً سياسياً، كما يروج البعض.
يقول المفتي أيضاً إن مبادرة حوض نهر النيل مملوكة لكل دول حوض النهر العشر، ولا يمكن أن تتحول إلى مفوضية دائمة من دون موافقة مالكيها جميعاً، وهو ما أكده السودان في اجتماع المجلس الوزاري في أديس أبابا في تموز (يوليو) 2010 وقرر الجميع عقد اجتماع وزاري طارئ لمناقشة هذا الموضوع وحتى يومنا هذا لم يعقد هذا الاجتماع، وتم تشكيل لجنة من الخبراء الدوليين من خارج حوض النيل وأعدوا تقريراً يؤيد وجهة النظر حول كون المبادرة ملكاً لكل الدول. وهذا التقرير في انتظار إجازته من جانب الوزراء، وإلى يومنا هذا لم يعرض عليهم هذا التقرير، وبدلاً من ذلك تمت الدعوة إلى اجتماع رئاسي على رغم أهمية هذا التقرير وإمكان أن يؤدي إلى تقريب وجهات النظر.
ويؤكد المفتي مبدأ توافق الآراء، مشيراً إلى أن من الحكمة أن تتبنى دول النيل هذا المبدأ، ولكن الزخم السياسي غير المبرر حول الاتفاقيات السابقة يعرقل التقدم والتوافق هو الأجدى، كما أن هناك تناقضاً واضحاً في موقف الدول، فالاتفاقية التي تم توقيعها فيها الكثير من البنود التي تؤكد مبدأ توافق الآراء، فهل يعقل أن يتم تقرير أكثر من عشر مواد بتوافق الآراء مجتمعة، أما المادة الخاصة بالأمن المائي فتكون بالتصويت، وقد عرضت مصر والسودان أيضاً أن يحال هذا البند إلى المفوضية بعد إنشائها، وأن يتم التوصل إلى حل باتفاق الكل، ولكن أصرت دول المنابع على مناقشة هذا البند قبل إنشاء المفوضية، وها هي الآن توقع على اتفاق منفرد من دون التوصل إلى اتفاق جماعي.
ويرى المفتي أن المجتمع المدني يستطيع أن يلعب دوراً مهماً في المرحلة المقبلة، ولكن إذا توافرت له المعلومات وتعرف الى الحقائق القانونية والفنية والعلمية التي تحقق فوائد مشتركة لكل دول الحوض.
وهذا ما أكدته أيضاً المديرة الإقليمية للمنتدى الأهلي الدولي لحوض النيل آبي أوننكن في تصريح الى «الحياة» عن دور المنتدى في المرحلة المقبلة الذي يعبر عن صوت المجتمع المدني، إذ قالت: «إن دورنا في المرحلة المقبلة هو توضيح الحقائق في ما يتعلق بالفوائد المشتركة وفتح الأبواب لمزيد من الآراء ودمج المجتمعات المحلية وعبور الفجوات من خلال الشفافية وبناء الثقة على الأرض وضرورة وجود استراتيجية محددة للاتصال والإعلام، فهناك الكثير من الأفكار لا تزال غير واضحة أو أحياناً مغلوطة. ولا بد من مراعاة البعد الاجتماعي على نحو أكبر ونحن نحتاج إلى مزيد من الدمج للمجتمعات المحلية ولا بد من تفعيل دور المنتدى في المشاركة في المشاريع المختلفة ليتم التعبير عن سماع صوت هذه المجتمعات، كما لا بد من توثيق التعاون بين المنتدى والمبادرة وتوفير المعلومات. واختتمت فعاليات هذا الاجتماع شبه الإقليمي بكلمة من وزير الري والموارد المائية في مصر الدكتور حسين العطفي، أكد فيها التزام بلاده مبدأ التعاون. وقال العطفي إن الدول كافة لا بد من أن تسعى إلى تحقيق التوافق. ودعا العطفي إلى دور أكبر للجمعيات الأهلية والمجتمع المدني، واختتم حديثه قائلاً: «نحن نثق في الشعوب».
وأكد التقرير الختامي للاجتماع مبدأ توافق الآراء لحل الخلافات التي لا تزال موجودة، وضرورة استجابة مطالب الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني وتفعيل أدوارها منذ الخطوات الأولى لإقرار أي مشروع والتوعية الشاملة بالفرص المشتركة المتاحة للجميع، فهل يستطيع المجتمع المدني الوصول بالرسالة إلى من يحاولون اختزال كل ما بذل من مال وجهد ووقت عبر سنوات «مبادرة حوض نهر النيل»، من أجل ضغط سياسي أو مصالح منفردة؟ وهل تستطيع الديبلوماسية الشعبية أن تعيد الثقة المهتزة بين دول حوض النيل؟